فصل: الرّضاع المحرّم، ودليل التّحريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


رضاً

التّعريف

1 - الرّضا لغةً‏:‏ مصدر رضي يرضى رضاً - بكسر الرّاء وضمّها، ورضواناً - بالكسر والضّمّ‏.‏ فيقال‏:‏ رضيت الشّيء، ورضيت عنه، وعليه، وبه‏.‏

وهو بمعنى‏:‏ سرور القلب وطيب النّفس، وضدّ السّخط والكراهية‏.‏

والرّضاء - بالمدّ - اسم مصدرٍ عند الأخفش، ومصدر راضى بمعنى المفاعلة عند غيره، فيكون حينئذٍ بمعنى المراضاة والموافقة‏.‏

والتّراضي‏:‏ مصدر تراضى، وهو حقيقة في المشاركة، حيث قال القرطبيّ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏}‏ جاءت من التّفاعل، إذ التّجارة بين اثنين، أي عن رضا كلٍّ منهما‏.‏

2 - وفي الاصطلاح‏:‏ عرّفه الحنفيّة بأنّه‏:‏ امتلاء الاختيار، أي بلوغه نهايته، بحيث يفضي أثره إلى الظّاهر من ظهور البشاشة في الوجه، ونحوها، وبعبارةٍ أخرى لخصّها التّفتازانيّ، وابن عابدين، والرّهاويّ منهم، هي أنّ الرّضا‏:‏ إيثار الشّيء واستحسانه‏.‏ وعرّفه الجمهور بأنّه قصد الفعل دون أن يشوبه إكراه‏.‏

فعلى ضوء ذلك‏:‏ إنّ الرّضا عند الحنفيّة أخصّ من الرّضا عند الجمهور، فمجرّد القصد إلى تحقيق أثرٍ في المعقود عليه يسمّى الرّضا عند الجمهور، وإن لم يبلغ الاختيار غايته، ولم يظهر السّرور، في حين لا يسمّى به عند الحنفيّة إلاّ إذا تحقّق الاستحسان والتّفضيل على أقلّ تقديرٍ‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الإرادة‏:‏

3 - الإرادة لغةً المشيئة ويستعملها الفقهاء بمعنى القصد إلى الشّيء والاتّجاه إليه، وقد تحصل الإرادة دون الرّضا‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إرادة‏)‏‏.‏

ب - النّيّة‏:‏

4 - النّيّة لغةً‏:‏ القصد وعزم القلب، وفي الاصطلاح عرّفها الجمهور بأنّها عقد القلب على إيجاد الفعل جزماً، وعرّفها الشّافعيّة بأنّها قصد الشّيء مقترناً بفعله، فالنّيّة مرتبطة بالعمل‏.‏

ج - القصد‏:‏

5 - القصد لغةً‏:‏ الاعتزام والتّوجّه، والنّهوض نحو الشّيء، وفي اصطلاح الفقهاء هو العزم المتّجه نحو إنشاء فعلٍ‏.‏

د - الإذن‏:‏

6 - الإذن لغةً‏:‏ هو الإباحة، وإطلاق الفعل، والإرادة، حيث يقال‏:‏ بإذن اللّه، أي بإرادته، والمراد به في إطلاق الفقهاء‏:‏ تفويض الأمر إلى آخر، فيقولون‏:‏ صبيّ مأذون، أو عبد مأذون في التّجارة، وهو تعبير عن الرّضا‏.‏

هـ – الإكراه‏:‏

7 – الإكراه والإجبار، وهما من أضداد ‏"‏ الرّضا ‏"‏‏.‏

وينظر التّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏إكراه‏)‏‏.‏

و - الاختيار‏:‏

8 - الاختيار لغةً‏:‏ الاصطفاء، والإيثار، والتّفضيل، وفي اصطلاح الفقهاء عرّفه الحنفيّة بأنّه ‏"‏ القصد إلى أمرٍ متردّدٍ بين الوجود والعدم داخلٍ في قدرة الفاعل بترجيح أحد الأمرين على الآخر ‏"‏‏.‏

ولخصّه بعضهم بقولهم‏:‏ ‏"‏ القصد إلى الشّيء وإرادته ‏"‏‏.‏

وعرّفه الجمهور‏:‏ ‏"‏ أنّه القصد إلى الفعل وتفضيله على غيره ‏"‏‏.‏

وسبق التّفصيل فيه في مصطلح ‏(‏اختيار‏)‏‏.‏

حقيقة الرّضا وعلاقته بالاختيار

8 م - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الرّضا والاختيار شيئان مختلفان من حيث المعنى الاصطلاحيّ والآثار، في حين ذهب الجمهور إلى أنّهما مترادفان‏.‏

وعلى ضوء ما ذكره الحنفيّة أنّ الرّضا أخصّ من الاختيار، قسّموا الاختيار إلى ثلاثة أقسامٍ يوجد الرّضا في أحدها، وينعدم في قسمين‏:‏

1 - اختيار صحيح، وهو ما يكون صاحبه متمتّعاً بالأهليّة الكاملة دون إكراهٍ ملجئٍ أو كما يقول البزدويّ وعبد العزيز البخاريّ‏:‏ ما يكون الفاعل في قصده مستبدّاً - أي مستقلاً‏.‏ والاختيار الصّحيح - عندهم - يتحقّق حتّى وإن صاحبه إكراه ما لم يكن ملجئاً، لكن الرّضا يتحقّق إذا لم يكن معه أيّ نوعٍ من الإكراه، وأمّا إذا وجد إكراه غير ملجئٍ، فإنّ الاختيار صحيح، والرّضا فاسد‏.‏

2 - اختيار باطل وهو حينما يكون صاحبه مجنوناً، أو صبيّاً غير مميّزٍ، وحينئذٍ يكون الرّضا معدوماً أيضاً‏.‏

3 - اختيار فاسد، وهو ما إذا كان مبنيّاً على إرادة شخصٍ آخر، أي أن يتمّ في ظلّ إكراهٍ ملجئٍ، وحينئذٍ يكون الرّضا معدوماً‏.‏

فالإكراه في نظر الحنفيّة لا ينافي الاختيار حيث قد يكون صحيحاً مع الإكراه غير الملجئ، ويكون فاسداً مع الإكراه الملجئ، ولكن الإكراه بقسميه ينافي الرّضا‏.‏

9- وهذه الأقسام الثّلاثة لها علاقة - كقاعدةٍ عامّةٍ - بتقسيمهم العقود إلى الصّحيح، والباطل، والفاسد‏.‏

وتتلخّص وجهة نظر الحنفيّة في هذه التّفرقة في أنّ المعنى اللّغويّ لكلٍّ من الاختيار والرّضا مختلف، فالرّضا هو ضدّ السّخط، وسرور القلب وارتياح النّفس بحيث تظهر آثاره على الوجه، وأمّا الاختيار فلا تلاحظ فيه هذه المعاني، بالإضافة إلى أنّ الشّرع فرّق بين التّصرّفات، حيث اشترط الرّضا في العقود الماليّة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏}‏ في حين لم يشترط الرّضا في بعض تصرّفاتٍ غير ماليّةٍ، مثل الطّلاق والنّكاح والرّجعة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » ثلاث جدّهنّ جدّ، وهزلهنّ جدّ‏:‏ الطّلاق، والنّكاح، والرّجعة « ومن المعلوم بداهةً أنّ الرّضا بآثار العقد لا يتحقّق مع الهزل، مع أنّه لا يؤثّر في هذه العقود، وعلى ضوء ذلك قسّموا العقود فجعلوا بعضها لا يحتاج إلى الرّضا وهي العقود الّتي سمّوها بالعقود غير القابلة للفسخ، وهي النّكاح، والطّلاق، والرّجعة‏.‏ واشترطوا في بعضها الرّضا، وهي العقود الماليّة، ثمّ جعلوا الاختيار أساساً لجميع العقود‏.‏

10 - ولم يعترف الجمهور بهذا التّقسيم الثّلاثيّ للاختيار، حيث هو محصور عندهم في الصّحيح والباطل، كما أنّ الإكراه عندهم ينافي الاختيار كما ينافي الرّضا، قال الشّاطبيّ‏:‏ فالعمل إذا تعلّق به القصد تعلّقت به الأحكام التّكليفيّة، وإذا عرّي عن القصد لم يتعلّق به شيء منها‏.‏

فلو فرضنا العمل مع عدم الاختيار كالملجأ، والنّائم والمجنون، فلا يتعلّق بأفعالهم مقتضى الأدلّة، فليس هذا النّمط بمقصودٍ للشّارع، فبقي ما كان مفعولاً بالاختيار لا بدّ فيه من قصدٍ‏.‏

وصرّح الغزاليّ وغيره بأنّ طلاق المكره لا يقع، لأنّه ساقط الاختيار، ونقل ابن النّجّار عن أحمد قوله‏:‏ إنّ الإكراه يزيل الاختيار‏.‏

آثار هذا الاختلاف

11 - لم يكن هذا الخلاف بين الحنفيّة والجمهور لفظيّاً لا تترتّب عليه الآثار، وإنّما خلاف معنويّ ثبت عليه آثار فقهيّة تظهر في تصرّفات وعقود الهازل، والمكره، والمخطئ، والسّكران، ومن لم يفهم المعنى الموضوع للإيجاب والقبول، حيث ذهب الحنفيّة إلى صحّة العقود غير الماليّة من هؤلاء، فطلاق هؤلاء، ونكاحهم ورجعتهم ونحوها صحيح - كقاعدةٍ عامّةٍ - اعتماداً على أصل القصد والاختيار، ووجود العبارة الصّادرة منهم، فلو أراد شخص أن يقول لزوجته‏:‏ يا عالمة، فسبق لسانه فقال‏:‏ أنت طالق فقد وقع طلاقه عندهم، وعلّل ذلك عبد العزيز البخاريّ الحنفيّ بقوله‏:‏ اعتباراً بأنّ القصد أمر باطن لا يوقف عليه، فلا يتعلّق بوجوده حقيقةً، بل يتعلّق بالسّبب الظّاهر الدّالّ عليه، وهو أهليّة القصد بالعقد والبلوغ نفياً للحرج‏.‏

وقال في تعليل وقوع طلاق السّكران‏:‏ إنّ السّكر وإن كان يعدم القصد الصّحيح، لكنّه لا يعدم العبارة، ويقول الحصكفيّ في‏:‏ ولا يشترط العلم بمعنى الإيجاب والقبول فيما يستوي فيه الجدّ والهزل مثل الطّلاق والنّكاح، ولم يحتج لنيّةٍ، وبه يفتى‏.‏

وأمّا العقود الماليّة - مثل البيع والإجارة - فاشترط فيها الاختيار عندهم للانعقاد، واشترط لصحّتها الرّضا، فإذا تحقّقا في التّصرّف كان صحيحاً ومنعقداً -مع توفّر الشّروط الأخرى - وإذا انعدم الاختيار انعدم العقد وأصبح باطلاً، وأمّا إذا وجد الاختيار وانعدم الرّضا فإنّ العقد يكون فاسداً‏.‏

وأمّا الجمهور فاشترطوا وجود الرّضا - أي الاختيار - في جميع العقود، إلاّ إذا دلّ دليل خاصّ على عدم اعتباره في عقدٍ خاصٍّ، مثل الهزل في الطّلاق والنّكاح والرّجعة‏.‏

12 - ثمّ إنّ التّحقيق أنّ الحنفيّة فرّقوا بين ثلاثة أمورٍ‏:‏

أ - العبارة الصّادرة ممّن له الأهليّة، والموضوعة للدّلالة على ترتيب الآثار، كبعت، وطلّقت‏.‏

ب - قصد العبارة دون قصد الأثر المترتّب عليها، وهو الاختيار‏.‏

ج - قصد العبارة والأثر، وهو الرّضا‏.‏

فالأوّل هو ركن في جميع التّصرّفات والعقود، أو شرط لانعقادها، والثّاني شرط لانعقاد العقود الماليّة، وليس شرطاً للعقود الّتي يستوي فيها الجدّ والهزل كالطّلاق والنّكاح ونحوهما، ولذلك يقع طلاق السّكران، والمكره، والسّاهي عندهم، والاختيار بهذا المعنى لا ينافي الإكراه، بل يجتمع معه، ولذلك تنعقد عقود المكره الماليّة، ولكنّها لا تكون صحيحةً نافذة العقود، لكونها تحتاج إلى شرطٍ آخر وهو الرّضا‏.‏

وأمّا الثّالث فهو شرط لصحّة العقود الماليّة، وليس بشرطٍ في العقود غير الماليّة إطلاقاً‏.‏ وأمّا جمهور الفقهاء، فجعلوا العبارة هي الوسيلة، وإنّما الأساس هو القصد، وهو المقصود بالرّضا والاختيار، سواء أكان ذلك في العقود الماليّة أم غير الماليّة، يقول الشّاطبيّ‏:‏ فالعمل إذا تعلّق به القصد تعلّقت به الأحكام التّكليفيّة، وإذا عرّي عن القصد لم يتعلّق به شيء منها‏.‏

وقال العزّ بن عبد السّلام‏:‏ مدار العقود على العزوم والقصود‏.‏

ويقول الغزاليّ والنّوويّ‏:‏ الرّكن الثّالث - أي من أركان الطّلاق - القصد إلى لفظ الطّلاق ومعناه، ولذلك لا يقع عندهم طلاق المكره والمخطئ والسّاهي والغافل ونحوهم‏.‏

وأمّا الخلاف فيما بين الجمهور في طلاق السّكران فيعود في الواقع إلى مدى النّظرة إلى عقابه وردعه، ولذلك لا يقع طلاقه بالإجماع إذا كان غير متعدٍّ بسكره، وإنّما الخلاف في السّكران بتعدٍّ، حيث نظر الّذين أوقعوا طلاقه إلى أنّ القول به رادع له عن ذلك، أو يكيّف فقهيّاً بأنّ رضاه بتناول المسكر الّذي يعلم بأنّ عقله سيغيب به رضاً بالنّتائج الّتي تترتّب عليه‏.‏

وكما يشترط في تحقّق الرّضا قصد العبارة - أو التّعبير عنه - فلا بدّ كذلك من قصد الآثار المترتّبة عليه، فالمكره مثلاً قصد العبارة مثل بعت لكنّه لم يقصد انتقال الملكيّة، وإنّما تنفيذ ما هدّده المكره - بكسر الرّاء - وكذلك لا يتحقّق قصد الآثار إلاّ إذا كان عالماً بها في الجملة، فلو ردّد شخص وراء آخر ‏"‏ بعت ‏"‏ أو ‏"‏ قبلت ‏"‏ ولم يفهم معناه، لم يتمّ القصد، يقول الغزاليّ‏:‏ ولكنّ شرطه - أي القصد - الإحاطة بصفات المقصود‏.‏

ويقول ابن القيّم‏:‏ فإن لم يكن - أي العاقد - عالماً بمعناها - أي العبارة، ولا مقصوداً له لم تترتّب عليها أحكامها أيضاً، ولا نزاع بين أئمّة الإسلام في ذلك‏.‏

الحكم الإجماليّ

13 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ حلّ أموال النّاس منوط بالرّضا، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ‏}‏‏.‏

ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » إنّما البيع عن تراضٍ «‏.‏

وقوله‏:‏ » ولا يحلّ لامرئٍ من مال أخيه إلاّ ما طابت به نفسه «، وفي روايةٍ‏:‏ » لا يحلّ مال امرئٍ مسلمٍ إلاّ بطيب نفسٍ «، واختلفوا في كون الرّضا في التّصرّفات شرطاً أو لا ‏؟‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ الرّضا شرط لصحّة العقود الّتي تقبل الفسخ – وهي العقود الماليّة من بيعٍ وإجارةٍ، ونحوها – أي أنّها لا تصحّ إلاّ مع التّراضي، وقد تنعقد الماليّة لكنّها تكون فاسدةً كما في بيع المكره ونحوه، ويقول المرغينانيّ‏:‏ لأنّ من شروط صحّة هذه العقود التّراضي، وجاء في التّلويح‏:‏ أنّه – أي البيع – يعتمد القصد تصحيحاً للكلام، ويعتمد الرّضا، لكونه ممّا يحتمل الفسخ، بخلاف الطّلاق‏.‏

وقد صرّح الحنفيّة بأنّ أصل العقود الماليّة تنعقد بدون الرّضا، لكنّها لا تكون صحيحةً، يقول أمير بادشاه الحنفيّ‏:‏ وينعقد بيع المخطئ نظراً إلى أصل الاختيار، لأنّ الكلام صدر عنه باختياره، أو بإقامة البلوغ مقام القصد، لكن يكون فاسداً غير نافذٍ لعدم الرّضا حقيقةً‏.‏ وأمّا العقود الّتي لا تقبل الفسخ في نظرهم، فالرّضا ليس شرطاً لصحّتها ولا له أثر فيها، فقد ذكر الفقيه أبو اللّيث السّمرقنديّ التّصرّفات الّتي تصحّ مع الإكراه عندهم، فبلغت ثمانية عشر تصرّفاً، منها الطّلاق، والنّكاح، والعتاق، والرّجعة، والحلف بطلاقٍ وعتاقٍ وظهارٍ، والإيلاء، وقبول المرأة الطّلاق على مالٍ‏.‏

ويقول ابن الهمام‏:‏ ويقع طلاق المخطئ، لأنّ الغفلة عن معنى اللّفظ خفيّ، فأقيم تمييز البلوغ مقامه، وعلّل عبد العزيز البخاريّ ذلك بأنّ حقيقة العقد تعلّق بالسّبب الظّاهر الدّالّ عليه‏.‏

وأمّا جمهور الفقهاء فتدور عباراتهم بين التّصريح بأنّ الرّضا أصل أو أساس أو شرط للعقود كلّها، فعلى ضوء ما صرّحوا به إذا لم يتحقّق الرّضا لا ينعقد العقد، سواء أكان ماليّاً أم غير ماليٍّ، يقول الدّسوقيّ والخرشيّ وغيرهما‏:‏ إنّ المطلوب في انعقاد البيع ما يدلّ على الرّضا، وإنّ انتقال الملك متوقّف على الرّضا، ويقول الزّنجانيّ الشّافعيّ‏:‏ الأصل الّذي تبنى عليه العقود الماليّة اتّباع التّراضي‏.‏

ويصرّح الحنابلة بأنّ التّراضي شرط من شروط صحّة العقد ما لم يكره بحقٍّ، كالّذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه‏.‏

14 - هذا، وإنّ الرّضا أمر خفيّ لا يطّلع عليه، لأنّه ميل النّفس فأنيط الحكم بسببٍ ظاهرٍ وهو الصّيغة الّتي هي الإيجاب والقبول، فينعقد العقد بما يدلّ على الرّضا من قولٍ أو فعلٍ أو إشارةٍ‏.‏

عيوب الرّضا

14 م - إنّ ‏"‏ الرّضا ‏"‏ بمعناه الاصطلاحيّ إنّما يتحقّق إذا وجد القصد إلى آثار العقد، ولكنّه إنّما تترتّب عليه الآثار الشّرعيّة إذا سلم من كلّ عيبٍ يؤثّر فيه، وذلك إنّما يتحقّق إذا كان ‏"‏ الرّضا ‏"‏ سليماً أي بأن يكون حرّاً طليقاً لا يشوبه ضغط ولا إكراه، ولا يتقيّد بمصلحة أحدٍ كرضا المريض، أو الدّائن المفلس، وأن يكون واعياً فلا يحول دون إدراك الحقيقة جهل، أو تدليس وتغرير، أو استغلال، أو غلط أو نحو ذلك ممّا يعوق إدراكه‏.‏

فمن عيوب الرّضا الإكراه والجهل والغلط، والتّدليس والتّغرير، والاستغلال وكون الرّضا‏:‏ مقيّداً برضا شخصٍ آخر، يقول الغزاليّ والنّوويّ وغيرهما‏:‏

يختلّ القصد بخمسة أسبابٍ‏:‏ سبق اللّسان، والهزل، والجهل، والإكراه، واختلال العقل‏.‏ فإذا وجد عيب من هذه العيوب، أو بعبارةٍ أخرى إذا لم يتوفّر شرط من شروط الرّضا فإنّ العقد في بعض الأحوال يكون فاسداً، أو باطلاً - على خلافٍ فيهما بين الجمهور والحنفيّة- ويكون في بعض الأحوال غير لازمٍ، أي يكون لأحد العاقدين، أو كليهما حقّ الخيار، ومن هنا فإنّ هذه العيوب بعضها يؤثّر في الرّضا تأثيراً مباشراً، فيكون العقد الّذي تمّ في ظلّه فاسداً أو باطلاً كما في الإكراه، وبعضها يؤثّر في إلزاميّة الرّضا، فيكون العقد الّذي تمّ في ظلّه غير ملزمٍ، بل يكون لعاقدٍ حقّ الخيار، مثل التّدليس، والتّغرير، والاستغلال ونحوها، وبعبارةٍ أخرى فإنّ هذه الشّروط منها ما هو شرط لصحّة الرّضا ككونه لم يقع تحت إكراهٍ، ومنها ما هو شرط للزومه، ككونه لم يشبه غلط أو استغلال، أو تدليس، على تفصيلٍ كبيرٍ وخلافٍ‏.‏

ونحيل لأحكام هذه المسائل إلى مصطلحاتها الخاصّة في الموسوعة‏.‏

وسائل التّعبير عن الرّضا

15 - إنّ الرّضا في حقيقته - كما سبق - هو القصد، وهو أمر باطنيّ ليس لنا من سبيلٍ إليه إلاّ من خلال وسائل تعبّر عنه، وهي اللّفظ والفعل - أي البذل - والكتابة، والإشارة، والسّكوت في معرض البيان‏.‏

يقول البيضاويّ بعد أن ذكر ضرورة وجود الرّضا حقيقةً‏:‏ لكنّه لمّا خفي نيط باللّفظ الدّالّ عليه صريحاً‏.‏

ويقول ابن القيّم‏:‏ إنّ اللّه تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفاً ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئاً عرّفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتّب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعلٍ، أو قولٍ، ولا على مجرّد ألفاظٍ مع العلم بأنّ المتكلّم بها لم يرد معانيها ولم يحط بها علماً، بل تجاوز للأمّة عمّا حدّثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تكلّم به‏.‏ فإذا اجتمع القصد والدّلالة القوليّة، أو الفعليّة ترتّب الحكم، هذه قاعدة الشّريعة، وهي من مقتضيات عدل اللّه وحكمته ورحمته، فإنّ خواطر القلوب وإرادة النّفوس لا تدخل تحت الاختيار‏.‏ وسنوجز القول في دلالة هذه الوسائل‏:‏

16 - دلالة اللّفظ على الرّضا، حيث هو الوسيلة الأولى والأفضل في التّعبير عن الرّضا، ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك، وإن كان الخلاف فيه منصبّاً على بعض الصّيغ، كصيغ الاستفهام، أو الكناية، أو المضارع، حيث وقف بعض الفقهاء عند ملاحظة نوعيّة الدّلالة اللّغويّة، واشترطوا أن لا يكون فيها احتمال، في حين أنّ جماعةً من الفقهاء - منهم المالكيّة - ذهبوا إلى أنّ العمدة في ذلك دلالة اللّفظ على المقصود، وأنّ المرجع في ذلك هو العرف، كما أنّ القرينة أيضاً لها دور في جعل اللّفظ دالاً على المقصود‏.‏

وهناك تفصيل واسع يذكر في مصطلح‏:‏ ‏(‏عقد‏)‏‏.‏

17 - دلالة الفعل على الرّضا ‏"‏ البذل ‏"‏ أي عرض الشّخص المعقود عليه فيأخذه الآخر فيدفع قيمته، وهذا ما يسمّى بالمعاطاة، أي من الطّرفين، أو القول من أحدهما والعرض من الآخر، أي الإعطاء من أحدٍ دون قولٍ، والجانب الثّاني يعبّر عن الرّضا بالقول، أو الكتابة، أو نحوهما‏.‏

وقد ثار الخلاف في مدى دلالته على الرّضا على ثلاثة آراءٍ موجزها‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ عدم صلاحية الفعل ‏"‏ البذل ‏"‏ للتّعبير عن الرّضا في العقود، هذا رأي الشّافعيّة في المشهور عندهم‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ صلاحيته للدّلالة على الرّضا، وإنشاء العقد به مطلقاً، وهذا مذهب الحنفيّة - ما عدا الكرخيّ - والمالكيّة، والحنابلة - ما عدا القاضي - واختاره جماعة من الشّافعيّة منهم البغويّ والنّوويّ، وإن كان بعض هؤلاء قيّدوا ذلك بالعرف‏.‏

الرّأي الثّالث‏:‏ صلاحيته في الأشياء الرّخيصة، وعدم صلاحيته في الغالية والنّفيسة، وهذا رأي الكرخيّ من الحنفيّة، وابن سريجٍ، والغزاليّ من الشّافعيّة، والقاضي أبي يعلى من الحنابلة‏.‏

دلالة الكتابة على الرّضا

18 - ذهب المالكيّة والحنابلة، وبعض الشّافعيّة إلى أنّ الكتاب كالخطاب في دلالته على الرّضا سواء أكان بين الحاضرين أم الغائبين، واستثنوا النّكاح‏.‏

وذهب بعض الشّافعيّة إلى عدم صلاحية الكتابة لإنشاء العقود إلاّ للعاجز عن الكلام‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ الكتاب كالخطاب فيما بين الغائبين دون الحاضرين‏.‏

دلالة الإشارة على الرّضا

19 - اتّفق الفقهاء على أنّ إشارة العاجز عن النّطق المفهومة هي كالكلام، وكذلك اتّفقوا على أنّ إشارة النّاطق لا تصلح إيجاباً أو قبولاً في النّكاح، وإنّما الخلاف في إشارة النّاطق في غير النّكاح فهل تقبل دليلاً عليه أو لا ‏؟‏‏.‏

ذهب الجمهور – منهم الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة – إلى عدم صلاحية الإشارة وحدها للتّعبير عن الرّضا بالنّسبة للنّاطق‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ الإشارة كاللّفظ في غير النّكاح، لأنّ العبرة بالرّضا فما دام قد ظهر بأيّة وسيلةٍ فلا بدّ أن يقبل، إذ لا دليل على تخصيص لفظٍ خاصٍّ له‏.‏

دلالة السّكوت على الرّضا

20 - لا شكّ أنّ السّكوت السّلبيّ لا يكون دليلاً على الرّضا أو عدمه، ولذلك تقضي القاعدة الفقهيّة على أنّه‏:‏ ‏"‏ لا يسند لساكتٍ قول، ولكن السّكوت في معرض الحاجة بيان ‏"‏ وذلك إذا صاحبته قرائن وظروف بحيث خلعت عليه ثوب الدّلالة على الرّضا‏.‏

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ سكوت البكر دليل على الرّضا للحديث الصّحيح الوارد، حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ » لا تنكح البكر حتّى تستأذن، قالوا يا رسول اللّه‏:‏ وكيف إذنها ‏؟‏ قال‏:‏ أن تسكت « وفي روايةٍ أخرى‏:‏ » الثّيّب أحقّ بنفسها من وليّها، والبكر يستأذنها أبوها في نفسها، وإذنها صماتها «‏.‏

رضاع

التّعريف

1 - الرّضاع - بكسر الرّاء وفتحها - في اللّغة‏:‏ مصدر رضع أمّه يرضعها بالكسر والفتح رضعاً ورضاعاً ورضاعةً أي امتصّ ثديها أو ضرعها وشرب لبنه‏.‏

وأرضعت ولدها فهي مرضع ومرضعة، وهو رضيع‏.‏

والرّضاع في الشّرع‏:‏ اسم لوصول لبن امرأةٍ أو ما حصل من لبنها في جوف طفلٍ بشروطٍ تأتي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الحضانة‏:‏

2 - هي في اللّغة‏:‏ الضّمّ مأخوذ من الحضن وهو الجنب‏.‏ سمّيت بذلك لضمّ الحاضنة المحضون إلى جنبها‏.‏

وشرعاً‏:‏ حفظ من لا يستقلّ بأموره وتربيته بما يصلحه‏.‏

والحاضنة قد تكون هي المرضعة، وقد تكون غيرها‏.‏

دليل مشروعيّة الرّضاع

3 - الأصل في مشروعيّته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‏}‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏‏.‏

الحكم التّكليفيّ

أوّلاً‏:‏ حكم الإرضاع

4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يجب إرضاع الطّفل ما دام في حاجةٍ إليه، وفي سنّ الرّضاع‏.‏ واختلفوا في من يجب عليه‏.‏

فقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يجب على الأب استرضاع ولده، ولا يجب على الأمّ الإرضاع، وليس للزّوج إجبارها عليه، دنيئةً كانت أم شريفةً، في عصمة الأب كانت أم بائنةً منه، إلاّ إذا تعيّنت بأن لم يجد الأب من ترضع له غيرها، أو لم يقبل الطّفل ثدي غيرها، أو لم يكن للأب ولا للطّفل مال، فيجب عليها حينئذٍ، ولكن الشّافعيّة قالوا‏:‏ يجب على الأمّ إرضاع الطّفل اللّبأ وإن وجد غيرها، واللّبأ ما ينزل بعد الولادة من اللّبن، لأنّ الطّفل لا يستغني عنه غالباً، ويرجع في معرفة مدّة بقائه لأهل الخبرة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ يجب على الأمّ ديانةً لا قضاءً‏.‏

واستدلّ الجمهور على وجوب الاسترضاع على الأب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى‏}‏‏.‏ وإن اختلفا فقد تعاسرا، وقال ابن قدامة‏:‏ ولأنّ إجبار الأمّ على الرّضاع لا يخلو‏:‏ إمّا أن يكون لحقّ الولد، أو لحقّ الزّوج، أو لهما‏:‏ لا يجوز أن يكون لحقّ الزّوج، لأنّه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها، ولا على خدمة نفسه فيما يختصّ به‏.‏ ولا يجوز أن يكون لحقّ الولد، لأنّه لو كان لحقّه للزمها بعد الفرقة ولم يقله أحد، ولأنّ الرّضاع ممّا يلزم الوالد لولده، فلزم الأب على الخصوص كالنّفقة، أو كما بعد الفرقة‏.‏ ولا يجوز أن يكون لهما، لأنّ ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعضٍ، ولأنّه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ‏}‏ محمول على حال الاتّفاق وعدم التّعاسر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجب الرّضاع على الأمّ بلا أجرةٍ إن كانت ممّن يرضع مثلها، وكانت في عصمة الأب، ولو حكماً كالرّجعيّة، أمّا البائن من الأب، والشّريفة الّتي لا يرضع مثلها فلا يجب عليها الرّضاع، إلاّ إذا تعيّنت الأمّ لذلك بأن لم يوجد غيرها‏.‏

واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ‏}‏‏.‏

وقالوا‏:‏ استثني الّتي لا يرضع مثلها من عموم الآية لأصلٍ من أصول الفقه وهو‏:‏ العمل بالمصلحة، ولأنّ العرف عدم تكليفها بالرّضاع فهو كالشّرط‏.‏

حقّ الأمّ في الرّضاع

5 - إن رغبت الأمّ في إرضاع ولدها أجيبت وجوباً‏.‏ سواء أكانت مطلّقةً، أم في عصمة الأب على قول جمهور الفقهاء، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا‏}‏‏.‏

والمنع من إرضاع ولدها مضارّة لها، ولأنّها أحنى على الولد وأشفق، ولبنها أمرأ وأنسب له غالباً‏.‏

وفي قولٍ للشّافعيّة‏:‏ للزّوج منعها من الإرضاع سواء كان الولد منه أو من غيره، كما أنّ له منعها من الخروج من منزله بغير إذنه‏.‏

حقّ الأمّ في أجرة الرّضاع

6 - للأمّ طلب أجرة المثل بالإرضاع سواء كانت في عصمة الأب أم خليّةً، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ وإلى هذا ذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن كانت في عصمة الأب أو في عدّته فليس لها طلب الأجرة، لأنّ اللّه تعالى أوجب عليها الرّضاع ديانةً مقيّداً بإيجاب رزقها على الأب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏، وهو قائم برزقها حالة بقائها في عصمته أو في عدّته، بخلاف من لم تكن في عصمته ولا في عدّته، فتقوم الأجرة مقام الرّزق، ولأنّ إلزام البائن بالإرضاع مجّاناً مع انقطاع نفقتها عن الأب مضارّة لها، فساغ لها أخذ الأجرة بالرّضاع بعد البينونة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا‏}‏ فإن طلبت الأمّ أكثر من أجرة المثل ووجد الأب من ترضع له مجّاناً أو بأجر المثل جاز له انتزاعه منها، لأنّها أسقطت حقّها بطلبها ما ليس لها، فدخلت في عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى‏}‏‏.‏

وإن لم يجد الأب من ترضع له بأقلّ ممّا طلبته الأمّ لم يسقط حقّها في الرّضاع، لأنّها تساوت مع غيرها في الأجرة فصارت أحقّ بها، كما لو طلبت كلّ واحدةٍ منهما أجرة المثل‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن كانت الأمّ ممّن يرضع مثلها وكانت في عصمة الأب فليس لها طلب الأجرة بالإرضاع، لأنّ الشّرع أوجبه عليها فلا تستحقّ بواجبٍ أجرةً‏.‏ أمّا الشّريفة الّتي لا يرضع مثلها، والمطلّقة من الأب، فلها طلب الأجرة، وإن تعيّنت للرّضاع أو وجد الأب من ترضع له مجّاناً‏.‏

ثانياً‏:‏ الأحكام الّتي تترتّب على الرّضاع

7 - يترتّب على الرّضاع بعض أحكام النّسب‏:‏

أ - تحريم النّكاح سواء حصل الرّضاع في زمن إسلام المرأة أو كفرها، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب «‏.‏ وسيأتي تفصيل ذلك‏.‏

ب - ثبوت المحرميّة المفيدة لجواز النّظر، والخلوة، وعدم نقض الطّهارة باللّمس عند من يرى ذلك من الفقهاء‏.‏

أمّا سائر أحكام النّسب كالميراث، والنّفقة، والعتق بالملك، وسقوط القصاص، وعدم القطع في سرقة المال، وعدم الحبس لدين الولد، والولاية على المال أو النّفس فلا تثبت بالرّضاع، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء‏.‏

الرّضاع المحرّم، ودليل التّحريم

8 - للرّضاع المحرّم ثلاثة أركانٍ‏:‏

1 - المرضع

2 - الرّضيع

3 - اللّبن‏.‏

أوّلاً‏:‏ المرضع

9 - يشترط في المرضع الّتي ينتشر بلبنها التّحريم‏:‏

1 - أن تكون امرأةً، فلا يثبت التّحريم بلبن الرّجل لندرته وعدم صلاحيّته غذاءً للطّفل، ولا بلبن البهيمة، فلو ارتضع طفلان من بهيمةٍ لم يصيرا أخوين، لأنّ تحريم الأخوّة فرع على تحريم الأمومة، ولا يثبت تحريم الأمومة بهذا الرّضاع فالأخوّة أولى‏.‏

2 - اشترط الحنفيّة والشّافعيّة أن تكون محتملةً للولادة بأن تبلغ سنّ الحيض وهو تسع سنين، فلو ظهر لبن الصّغيرة دون تسع سنين فلا يحرم، بخلاف من بلغت هذه السّنّ، لأنّه وإن لم يتيقّن بلوغها بالحيض فاحتمال البلوغ قائم، والرّضاع تلو النّسب فاكتفي فيه بالاحتمال، ولا يشترط المالكيّة ذلك فيحرم عندهم لبن الصّغيرة الّتي لا تحتمل الوطء‏.‏

التّحريم بلبن المرأة الميّتة‏:‏

10 - ذهب الجمهور إلى التّحريم بلبن المرأة الميّتة كما يحرم لبن الحيّة، لأنّه وجد الارتضاع على وجهٍ ينبت اللّحم وينشز العظم من امرأةٍ فأثبت التّحريم كما لو كانت حيّةً، ولأنّه لا فارق بين شرب لبنها في حياتها، وشربه بعد موتها، إلاّ الحياة أو النّجاسة، وهذا لا أثر له، لأنّ اللّبن لا يموت، ولا أثر للنّجاسة أيضاً، كما لو حلب بإناء نجسٍ، ولأنّه لو حلب منها في حياتها فشربه بعد موتها تنتشر الحرمة بالاتّفاق، ولأنّ ثديها لا يزيد على الإناء في عدم الحياة، وهي لا تزيد على عظم الميّتة في ثبوت النّجاسة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يشترط أن تكون المرضع حيّةً حياةً مستقرّةً عند انفصال اللّبن منها، فلا تثبت الحرمة بلبنٍ انفصل عن ميّتةٍ كما لا تثبت المصاهرة بوطئها، ولضعف حرمته بموتها، ولأنّه من جثّةٍ منفكّةٍ عن الحلّ والحرام، كالبهيمة، وإن انفصل اللّبن في حياتها فأوجر الطّفل بعد موتها حرّم بالاتّفاق‏.‏

تقدّم الحمل على الرّضاع‏:‏

11 - ذهب الجمهور وهو رواية عند الحنابلة إلى أنّه لا يشترط لثبوت التّحريم بلبن المرأة أن يتقدّم حمل‏.‏

فيحرّم لبن البكر الّتي لم توطأ ولم تحبل قطّ، لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏، ولأنّه لبن امرأةٍ فتعلّق به التّحريم‏.‏

والمنصوص عن أحمد وعليه المذهب أنّ لبن البكر لا ينشر التّحريم، لأنّه نادر لم تجر العادة به للتّغذية‏.‏

ثانياً‏:‏ اللّبن

12 - يشترط أن يصل اللّبن إلى جوف الطّفل بمصٍّ من الثّدي، أو إيجارٍ من الحلق، أو إسعاطٍ من الأنف، سواء كان اللّبن صرفاً أو مشوباً بمائعٍ لم يغلب على اللّبن، بأن كان اللّبن غالباً، بأن كانت صفاته باقيةً‏.‏

ولا فرق بين أن يكون المخالط نجساً كالخمر وأن يكون طاهراً كالماء ولبن الشّاة‏.‏

12 م - أمّا إن كان اللّبن مغلوباً فقد اختلف الفقهاء في ثبوت التّحريم به‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ اللّبن المغلوب لا يؤثّر في التّحريم، لأنّ الحكم للأغلب، ولأنّ اسم اللّبن يزول بغلبة غيره عليه‏.‏

وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يثبت التّحريم وإن كان اللّبن مغلوباً، بأن لم يبق من صفاته شيء، بشرط أن يشرب الطّفل الجميع أو يشرب بعضه، إذا تحقّق أنّ اللّبن قد وصل إلى الجوف بأن بقي منه أقلّ من قدر اللّبن، وأن يكون اللّبن مقداراً لو انفرد لأثّر‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ اللّبن المشوب كالمحض في إثبات التّحريم به على المذهب، والمشوب هو المختلط بغيره، والمحض هو الخالص الّذي لا يخالطه سواه، سواء شيب بطعامٍ أو شرابٍ أو غيره، وسواء أكان غالباً أو مغلوباً، وقال أبو بكرٍ‏:‏ قياس قول أحمد أنّه لا يحرّم، لأنّه وجور‏.‏

وحكي عن ابن حامدٍ أنّه قال‏:‏ إن كان الغالب اللّبن حرّم وإلاّ فلا، لأنّ الحكم للأغلب، ولأنّه يزول بكونه مغلوباً الاسم والمعنى المراد به‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ ووجه الأوّل أنّ اللّبن المغلوب متى كان لونه ظاهراً فقد حصل شربه ويحصل منه إنبات اللّحم وإنشاز العظم فحرّم، كما لو كان غالباً، وهذا فيما إذا كانت صفات اللّبن باقيةً‏.‏ فأمّا إن صبّ في ماءٍ كثيرٍ لم يتغيّر به لم يثبت به التّحريم، لأنّ هذا ليس بلبنٍ مشوبٍ ولا يحصل به التّغذّي ولا إنبات اللّحم ولا إنشاز العظم فليس برضاعٍ ولا في معناه، فوجب أن لا يثبت حكمه فيه‏.‏

وحكي عن القاضي أنّ التّحريم يثبت به أيضاً لأنّ أجزاء اللّبن حصلت في بطنه فأشبه ما لو كان لونه ظاهراً‏.‏

13 - كما اختلفوا في ثبوت التّحريم باللّبن المخلوط بطعامٍ والمتغيّرة هيئته بأن يصير جبناً أو مخيضاً، أو أقطاً‏.‏

فذهب الجمهور إلى أنّ التّحريم يثبت به لوصول عين اللّبن إلى جوف الطّفل، وحصول التّغذية به‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ لا تأثير للّبن المخلوط بطعامٍ ولا المتغيّر هيئته، ولا ما مسّته النّار لأنّ اسم الرّضاع لا يقع عليه‏.‏

اشتراط تعدّد الرّضعات‏:‏

14 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ خمس رضعاتٍ فصاعداً يحرّمن‏.‏ واختلفوا فيما دونها‏.‏ فذهب الجمهور ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة وأحمد في روايةٍ عنه ‏"‏ وكثير من الصّحابة والتّابعين إلى أنّ قليل الرّضاع وكثيره يحرّم وإن كان مصّةً واحدةً، فالشّرط في التّحريم أن يصل اللّبن إلى جوف الطّفل مهما كان قدره‏.‏

واحتجّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ اللّه سبحانه وتعالى علّق التّحريم باسم الرّضاع، فحيث وجد وجد حكمه، وورد الحديث موافقاً للآية‏:‏ » يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب « حيث أطلق الرّضاع ولم يذكر عدداً، ولحديث » كيف بها وقد زعمت أنّها قد أرضعتكما « ولم يستفصل عن عدد الرّضعات‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة في القول الصّحيح عندهم إلى أنّ ما دون خمس رضعاتٍ لا يؤثّر في التّحريم‏.‏ وروي هذا عن عائشة، وابن مسعودٍ وابن الزّبير رضي الله عنهم وبه قال عطاء وطاوس، واستدلّوا بما ورد عن عائشة، قالت‏:‏ » كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن ثمّ نسخن بخمسٍ معلوماتٍ فتوفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهنّ فيما يقرأ من القرآن «‏.‏ والمعنى واللّه أعلم‏:‏ أنّ نسخ تلاوة ذلك تأخّر جدّاً حتّى أنّه توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وبعض النّاس لم يبلغه نسخ تلاوته، فلمّا بلغهم نسخ تلاوته تركوه وأجمعوا على أنّه لا يتلى مع بقاء حكمه، وهو من نسخ التّلاوة دون الحكم، وهو أحد أنواع النّسخ‏.‏

15 - ولا يشترط اتّفاق صفات اللّبن وطرق وصوله إلى المعدة‏.‏ فإن مصّه من الثّدي مرّةً، وشرب من إناءٍ مرّةً، وأوجر من حلقه مرّةً، وأكله جبناً مرّةً بحيث تمّ له خمس مرّاتٍ أثّر في التّحريم‏.‏

ويشترط أن تكون الرّضعات متفرّقاتٍ عند من يرى اشتراط تعدّد الرّضعات‏.‏

والمعتمد في التّعدّد والتّفرّق هو العرف إذ لا ضابط له في اللّغة، ولا في الشّرع‏.‏

والرّجوع في الرّضعة والرّضعات إلى العرف، وما تنزل عليه الأيمان في ذلك، ومتى تخلّل فصل طويل تعدّد‏.‏

ولو ارتضع ثمّ قطع إعراضاً، واشتغل بشيءٍ آخر، ثمّ عاد وارتضع، فهما رضعتان، ولو قطعت المرضعة، ثمّ عادت إلى الإرضاع، فهما رضعتان على الأصحّ عند الشّافعيّة، كما لو قطع الصّبيّ، والرّاجح عند الحنابلة أنّها رضعة واحدة، ولا يحصل التّعدّد بأن يلفظ الثّدي، ثمّ يعود إلى التقامه في الحال، ولا بأن يتحوّل من ثديٍ إلى ثديٍ، أو تحوّله لنفاد ما في الأوّل، ولا بأن يلهو عن الامتصاص، والثّدي في فمه، ولا بأن يقطع التّنفّس، ولا بأن يتخلّل النّومة الخفيفة، ولا بأن تقوم وتشتغل بشغلٍ خفيفٍ، ثمّ تعود إلى الإرضاع، فكلّ ذلك رضعة واحدة‏.‏

ثالثاً‏:‏ الرّضيع

أ - أن يصل اللّبن إلى المعدة‏:‏

16 - يشترط أن يصل اللّبن إلى المعدة بارتضاعٍ أو إيجارٍ أو إسعاطٍ وإن كان الطّفل نائماً، لأنّ المؤثّر في التّحريم هو حصول الغذاء باللّبن وإنبات اللّحم وإنشاز العظم وسدّ المجاعة لتتحقّق الجزئيّة، ولا يحصل ذلك إلاّ بما وصل إلى المعدة‏.‏

أمّا الإقطار في الأذن أو الإحليل، أو الحقنة في الدّبر فلا يثبت به التّحريم‏.‏

ب - ألاّ يبلغ الرّضيع حولين‏:‏

17 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ ارتضاع الطّفل وهو دون الحولين يؤثّر في التّحريم‏.‏ فقال الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد وهو الأصحّ المفتى به عند الحنفيّة‏:‏ إنّ مدّة الرّضاع المؤثّر في التّحريم حولان، فلا يحرّم بعد حولين‏.‏

واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏}‏، وقالوا‏:‏ جعل اللّه الحولين الكاملين تمام الرّضاعة، وليس وراء تمام الرّضاعة شيء‏.‏

وقال عزّ من قائلٍ‏:‏ ‏{‏وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً‏}‏ وأقلّ الحمل ستّة أشهرٍ فتبقى مدّة الفصال حولين، ولحديث‏:‏ »لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين « ولحديث أمّ سلمة مرفوعاً‏:‏ » لا يحرّم من الرّضاعة إلاّ ما فتق الأمعاء في الثّدي وكان قبل الفطام «‏.‏

قال ابن تيميّة‏:‏ وقد ذهب طائفة من السّلف والخلف إلى أنّ إرضاع الكبير يحرّم‏.‏

واحتجّوا بما في صحيح مسلمٍ وغيره عن زينب بنت أمّ سلمة أنّ أمّ سلمة قالت لعائشة‏:‏ إنّه يدخل عليك الغلام الأيفع الّذي ما أحبّ أن يدخل عليّ‏.‏ فقالت عائشة‏:‏ أما لك في رسول اللّه أسوة حسنة ‏؟‏‏.‏ قالت‏:‏ إنّ امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول اللّه‏:‏ إنّ سالماً يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ » أرضعيه حتّى يدخل عليك « وفي روايةٍ لمالكٍ في الموطّأ قال‏:‏ » أرضعيه خمس رضعاتٍ « فكان بمنزلة ولده من الرّضاعة‏.‏

وهذا الحديث أخذت به عائشة، وأبى غيرها من أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به، مع أنّ عائشة روت عنه قال‏:‏ » الرّضاعة من المجاعة « لكنّها رأت الفرق بين أن يقصد رضاعةً أو تغذيةً‏.‏ فمتى كان المقصود الثّاني لم يحرّم إلاّ ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامّة النّاس‏.‏ وأمّا الأوّل فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرمٍ‏.‏ وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز لغيرها، وهذا قول متوجّه‏.‏

وقال‏:‏ رضاع الكبير تنتشر به الحرمة في حقّ الدّخول والخلوة إذا كان قد تربّى في البيت بحيث لا يحتشمون منه للحاجة، وهو مذهب عائشة وعطاءٍ واللّيث‏.‏

18 - وقال المالكيّة‏:‏ يشترط في التّحريم أن يرتضع في حولين أو بزيادة شهرٍ أو شهرين، وألاّ يفطم قبل انتهاء الحولين فطاماً يستغني فيه بالطّعام عن اللّبن، فإن فطم واستغنى بالطّعام عن اللّبن ثمّ رضع في الحولين فلا يحرّم‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ مدّة الرّضاع المحرّم حولان ونصف ولا يحرّم بعد هذه المدّة، سواء أفطم في أثناء المدّة أم لم يفطم، واحتجّ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ فأثبت سبحانه الحرمة بالرّضاع مطلقاً عن التّعرّض لزمان الرّضاع، إلاّ أنّه قام الدّليل على أنّ زمان ما بعد الحولين والنّصف ليس بمرادٍ، فيعمل بإطلاقه فيما وراءه‏.‏

واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً‏}‏ أي‏:‏ ومدّة كلٍّ منهما ثلاثون شهراً‏.‏

تحريم النّكاح بالرّضاع

أ - ما يحرم على الرّضيع‏:‏

19 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه يحرم على الرّضيع من النّساء من يحرمن عليه من النّسب وهنّ السّبع اللاتي ذكرن في آية‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ‏}‏ وهنّ الأمّهات والبنات، والأخوات والعمّات، والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت‏.‏

وقد ثبت تحريم الأمّ والأخت من الرّضاع بنصّ الكتاب قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ‏}‏، وتحريم البنت بالتّبعيّة، لأنّه إذا حرّمت الأخت فالبنت أولى‏.‏

أمّا سائر المحارم فقد ثبت تحريمهنّ بالسّنّة وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ » يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب «‏.‏

وثبتت المحرميّة لأنّها فرع على التّحريم فتحرّم المرضعة على الرّضيع، لأنّها أمّه، وآباؤها وأمّهاتها من النّسب أو الرّضاع أجداده وجدّاته‏.‏ فإن كان أنثى حرم على الأجداد نكاحها أو ذكرًا حرم عليه نكاح الجدّات‏.‏

وفروع المرضعة من الرّضاع كفروعها من النّسب، فأولادها من نسبٍ أو رضاعٍ إخوته وأخواته، سواء كانوا من صاحب اللّبن أو من غيره، وسواء من تقدّمت ولادته عليه ومن تأخّرت عنه لأنّهم إخوته وأخواته، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ‏}‏ فقد أثبت سبحانه وتعالى الحرمة والأخوّة بين بنات المرضعة وبين الرّضيع مطلقاً، من غير فصلٍ بين أختٍ وأختٍ، وكذا بنات بناتها، وبنات أبنائها، وإن سفلن‏.‏

ب - المرضعة‏:‏

20 - يحرم على المرضعة أبناء رضيعها وأبناء أبنائه وإن سفلوا، ولا يحرم عليها أصوله كأبيه، وجدّه، ولا حواشيه كإخوته وأعمامه وأخواله، فيجوز لهؤلاء أن يتزوّجوا المرضعة أو بناتها أو أخواتها، فالرّضاعة لا تنشر الحرمة إلى أصول الرّضيع وحواشيه‏.‏

ج - الفحل صاحب اللّبن‏:‏

21 - إنّ صاحب اللّبن - وهو زوج المرضعة الّتي نزل لها منه اللّبن - وهو المسمّى في عرف الفقهاء ‏"‏ لبن الفحل ‏"‏ ينشر الحرمة، فيحرم على صاحب اللّبن من أرضعتها زوجته، لأنّها ابنته من الرّضاع، وتحرم على أبنائه الّذين من غير المرضعة، لأنّهم إخوتها من الرّضاعة، وأبناء بناته من غير المرضعة، لأنّهم أبناء إخوتها لأبٍ من الرّضاعة، وإن أرضعت كلّ من زوجتيه طفلاً أجنبيّاً عن الآخر فقد صارا أخوين لأبٍ من الرّضاعة، فيحرم التّناكح بينهما إن كانت إحداهما أنثى، لأنّ بينهما أخوّةً لأبٍ من الرّضاعة، وتحرم الرّضيعة على آباء زوج المرضعة، لأنّهم أجدادها من قبل الأب من الرّضاعة، وعلى إخوته، لأنّهم أعمامها من الرّضاعة، وأخواته عمّات الرّضيع فيحرمن عليه، ولا حرمة بين صاحب اللّبن وأمّهات الرّضيع وأخواته من النّسب‏.‏

22 - ودليل نشر الحرمة من صاحب اللّبن‏:‏ ما روته عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ » إنّ أفلح أخا أبي القعيس استأذن عليّ بعد أن نزل الحجاب، فقلت‏:‏ واللّه لا آذن حتّى أستأذن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإنّ أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس‏.‏ فدخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول اللّه إنّ الرّجل ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأته،فقال‏:‏ائذني له فإنّه عمّك تربت يمينك وقال عروة‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏حرّموا من الرّضاعة ما يحرم من النّسب‏"‏ وسئل ابن عبّاسٍ رضي الله عنه عن رجلٍ تزوّج امرأتين فأرضعت إحداهما جاريةً والأخرى غلاماً هل يتزوّج الغلام الجارية ‏؟‏ قال‏:‏ لا، اللّقاح واحد‏.‏

وقد ذهب إلى عدم التّحريم بلبن الفحل سعيد بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبد الرّحمن، وسليمان بن يسارٍ، وعطاء، والنّخعيّ، وأبو قلابة، ويروى عدم التّحريم به أيضاً عن بعض الصّحابة‏.‏

ثبوت الأبوّة ولو بعد الطّلاق أو الموت

23 - تثبت الأبوّة باللّبن ولو بعد الطّلاق أو الموت، قصر الزّمان أو طال‏.‏

فإذا طلّق زوجته أو مات عنها ولها لبن فأرضعت به طفلاً قبل أن تتزوّج، فالرّضيع ابن المطلّق أو الميّت من الرّضاع، ولا تنقطع نسبة اللّبن إليه بموته أو طلاقه، سواء ارتضع في العدّة أو بعدها، قصرت المدّة أم طالت، انقطع اللّبن أم لم ينقطع، لأنّه لم يحدث ما يحال اللّبن عليه، فهو باستمراره منسوب إليه، وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء‏.‏

فإن تزوّجت بعد العدّة زوجاً وولدت منه فاللّبن بعد الولادة للثّاني، سواء انقطع وعاد أم لم ينقطع، لأنّ اللّبن تبع للولد، والولد للثّاني‏.‏

وإن لم تلد من الثّاني، وبقي لبن الأوّل بحاله لم يزد ولم ينقص فهو للأوّل سواء حبلت من الثّاني أم لم تحبل، لأنّ اللّبن كان للأوّل ولم يجدّ ما يجعله من الثّاني فبقي للأوّل‏.‏

وإن حبلت من الثّاني وزاد اللّبن بالحمل فاختلف فيه الفقهاء‏.‏

فقال الحنفيّة والشّافعيّة في القول الأصحّ عندهم‏:‏ إنّه للأوّل ما لم تلد‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إنّ اللّبن لهما، لأنّ زيادة اللّبن عند حدوث الحمل ظاهر في أنّه من الثّاني‏.‏ وبقاء لبن الأوّل يقتضي كون أصله منه فوجب أن يضاف إليهما‏.‏

ثبوت الحرمة بلبن من زنى

24 - إن ولدت من الزّنى فنزل لها لبن فأرضعت به صبيّاً، صار الرّضيع ابناً لها باتّفاق الفقهاء، لأنّه رضع لبنها حقيقةً والولد منسوب إليها، واختلفوا في ثبوت الحرمة بين الرّضيع وبين الرّجل الّذي ثاب اللّبن بوطئه‏.‏

فذهب الشّافعيّة والخرقيّ وابن حامدٍ من الحنابلة إلى أنّه يشترط في ثبوت الحرمة بين الرّضيع وبين صاحب اللّبن أن يكون اللّبن لبن حملٍ ينتسب إلى الواطئ بأن يكون الوطء في نكاحٍ أو شبهةٍ‏.‏

أمّا إن نزل اللّبن بحملٍ من الزّنى فلا تثبت الحرمة بين الرّضيع والفحل الزّاني، لأنّه لبن غير محترمٍ، ولأنّ التّحريم بينهما فرع لحرمة الأبوّة، فلمّا لم تثبت حرمة الأبوّة لم يثبت ما هو فرع لها وهو الأوجه عند الحنفيّة‏.‏

وقال المالكيّة، وأبو بكرٍ عبد العزيز من الحنابلة وهي رواية عند الحنفيّة‏:‏ إنّ لبن الفحل ينشر الحرمة، وإن نزل بزنىً، وقالوا‏:‏ لأنّه معنىً ينشر الحرمة فاستوى في ذلك مباحه ومحظوره كالوطء‏.‏

فإنّ الواطئ حصل منه ولد ولبن، ثمّ إنّ الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطئ فكذلك اللّبن ‏;‏ ولأنّه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فينشرها إلى الواطئ‏.‏

لبن الولد المنفيّ باللّعان

25 - إذا نفى زوج المرضعة ولدها بلعانٍ، فأرضعت معه صغيرةً بلبنه لم تثبت الحرمة بين الزّوج وبين الرّضيع، لانتفاء نسبة اللّبن إليه بانتفاء الولد عنه‏.‏

وإن نفاه بعد الرّضاع انتفى الرّضيع عنه أيضاً‏.‏ كما انتفى الولد‏.‏ وإن استلحق الولد بعد اللّعان لحق الرّضيع، فالأصل أنّ كلّ من يثبت منه النّسب يثبت منه الرّضاع، ومن لا يثبت منه النّسب لا يثبت منه الرّضاع‏.‏

المحرّمات بالمصاهرة المتعلّقة بالرّضاع

26 - أ - تحرم أمّ الزّوجة وجدّاتها من الرّضاعة مهما علون، سواء أكان هناك دخول بالزّوجة أم لم يكن‏.‏

ب - زوجة الأب والجدّ من الرّضاع، وإن علا، سواء دخل الأب والجدّ بها أم لم يدخل، كما يحرم عليه زوجة أبيه من النّسب‏.‏

ج - زوجة الابن وابن الابن وابن البنت من الرّضاع، وإن نزلوا، سواء دخل الابن ونحوه بالزّوجة أم لم يدخل، كما يحرم عليه زوجة أولاده من النّسب‏.‏

د - بنت الزّوجة من الرّضاعة، وبنات أولادها مهما نزلن، إذا كانت الزّوجة مدخولاً بها، فإن لم يكن دخل بها، فلا تحرّم فروعها من الرّضاع على الزّوج، كما في النّسب‏.‏

هـ - يحرم الجمع بين امرأةٍ وأختها، أو عمّتها، أو خالتها من الرّضاع‏.‏

الرّضاع الطّارئ على النّكاح

27 - الرّضاع المحرّم الطّارئ على النّكاح يقطعه كما يمنع ابتداءه، لأنّ أدلّة التّحريم لم تفرّق بين رضاعٍ مقارنٍ وبين طارئٍ عليه، ثمّ قد يقتضي الرّضاع الطّارئ على النّكاح مع القطع حرمةً مؤبّدةً، وقد لا يقتضي ذلك‏.‏

فإذا كانت عنده زوجة صغيرة فأرضعتها امرأة تحرّم عليه بنتها ‏"‏ كأمّه من النّسب، أو الرّضاع، أو جدّته، أو بنته، أو حفيدته، أو زوجة أبيه، أو زوجة ابنه، أو زوجة أخيه بلبانهم ‏"‏ رضاعاً محرّماً انفسخ النّكاح، وحرّمت عليه حرمةً مؤبّدةً، لأنّها صارت أخته، أو عمّته، أو خالته، أو حفيدته، أو بنت ابنه، أو ابنة أخيه‏.‏

أمّا إن كان اللّبن من غير الأب، والابن، والأخ فلا يؤثّر، لأنّ غايته أن تكون ربيبةً لهم وليست بحرامٍ عليهم‏.‏

وإن أرضعتها زوجة له أخرى فسد نكاح الكبيرة المرضعة في الحال، وحرّمت عليه مؤبّداً باتّفاق الفقهاء، لأنّها صارت أمّ زوجته، والأمّ تحرّم بنكاح البنت لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ‏}‏ ولم يشترط الدّخول بها، أمّا الصّغيرة فإن أرضعتها بلبن الزّوج أو دخل بالمرضعة انفسخ النّكاح، وحرّمت عليه مؤبّداً، لأنّها صارت بنته بالرّضاع، أو ربيبةً دخل بأمّها‏.‏ أمّا إن أرضعت بلبن غيره ولم يدخل بالمرضعة، فلم تحرم عليه مؤبّداً، وهذا محلّ اتّفاقٍ بين الفقهاء، لأنّها ربيبة لم يدخل بأمّها‏.‏ واللّه يقول‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ‏}‏ وانفسخ النّكاح عند جمهور الفقهاء، لأنّ اجتماع الأمّ والبنت في نكاحٍ ممتنع‏.‏

وفي هذا الموضوع تفريعات تنظر في الكتب المطوّلة في باب الرّضاع‏.‏

ما يثبت به الرّضاع

28 - يثبت الرّضاع بالإقرار أو بالبيّنة‏.‏

الإقرار بالرّضاع

29 - إذا تزوّج رجل امرأةً ثمّ قال‏:‏ هي أختي أو ابنتي من الرّضاع انفسخ النّكاح‏.‏ فإن كان قبل الدّخول وصدّقته المرأة فلا مهر لها، وإن كذّبته فلها نصفه‏.‏

وإن كانت المرأة هي الّتي قالت‏:‏ هو أخي من الرّضاعة فأكذبها ولم تأت بالبيّنة، فهي زوجته في الحكم‏.‏

وهذا إن كان الإقرار ممكناً‏.‏ فإن لم يكن ممكناً، بأن يقول‏:‏ فلانة بنتي من الرّضاعة وهي أكبر منه سنّاً فهو لغو‏.‏

الرّجوع عن الإقرار

30 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إذا صحّ الإقرار، فرجع عنه المقرّ أو رجعا لم يقبل قضاءً، وأمّا فيما بينه وبين ربّه فينبني ذلك على علمه بصدقه‏.‏ فإن علم أنّ الأمر كما قال فهي محرّمة عليه ولا نكاح بينهما، وإن علم كذب نفسه فالنّكاح باقٍ بحاله، وقوله كذب لا يحرّمها عليه، لأنّ المحرّم حقيقةً الرّضاع لا القول‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن ثبت على الإقرار بأن قال‏:‏ هو حقّ، فرّق بينهما، وإن قال‏:‏ أخطأت أو وهمت، لم يفرّق بينهما وقُبِل رجوعه‏.‏ وإن اتّفق الزّوجان على أنّ بينهما رضاعاً محرّماً فرّق بينهما، ويسقط المهر المسمّى، لأنّهما اتّفقا على أنّ النّكاح فاسد من أصله، ففسد المسمّى ووجب مهر المثل إن كانت جاهلةً بالتّحريم ودخل بها، لأنّها كالموطوءة بالشّبهة‏.‏ وإن كانت عالمةً بالتّحريم ومكّنته من الوطء فلا شيء لها، لأنّها بغي مطاوعة، وكذا إن كانت غير مدخولٍ بها، لاتّفاقهما على فساد النّكاح من أصله ولم يدخل بها، فلا موجب للمهر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ لها ربع دينارٍ ذهباً فقط‏.‏ وإن أقرّ الزّوج بالرّضاع وأنكرت هي، حكم ببطلان النّكاح وفرّق بينهما، ولزمه المسمّى إن كان صحيحاً أو مهر المثل إن كان فاسداً إن كانت مدخولاً بها، ونصف المسمّى أو نصف مهر المثل إن كانت غير مدخولٍ بها، لأنّ قوله غير مقبولٍ عليها في إسقاط حقوقها، فلزمه بإقراره فيما هو حقّ له وهو تحريمها عليه، وفسخ نكاحه، ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر‏.‏

هذا إذا لم تكن بيّنة، وله تحليفها قبل الدّخول، وكذا بعده إن كان مهر المثل أقلّ من المسمّى، فإن نكلت الزّوجة عن اليمين حلف الزّوج، ولا شيء لها قبل الدّخول، ولا يجب لها أكثر من مهر المثل بعد الدّخول‏.‏

إقرار الزّوجة بالرّضاع

31 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الزّوجة إن ادّعت الرّضاع بينها وبين الزّوج فأنكر الزّوج ولا بيّنة لم ينفسخ النّكاح، لأنّه حقّ عليها، وإن كان قبل الدّخول فلا مهر لها، لأنّها تقرّ بأنّها لا تستحقّه‏.‏

فإن كانت قد قبضته لم يكن للزّوج أخذه منها، لأنّه يقرّ بأنّه حقّ لها، وإن كان بعد الدّخول فأقرّت بأنّها كانت عالمةً بأنّها أخته، وبتحريمها عليه ومطاوعة له في الوطء فلا مهر لها، لأنّها أقرّت بأنّها زانية مطاوعة، وإن أنكرت شيئاً من ذلك فلها المهر، لأنّه وطء بشبهةٍ، وهي زوجته في ظاهر الحكم، لأنّ قولها عليه غير مقبولٍ‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن أقرّت الزّوجة بالرّضاع وأنكر الزّوج، صدق بيمينه إن زوّجت منه برضاها، بأن عيّنته في إذنها لتضمّنه إقرارها بحلّها له، فلم يقبل منها نقيضه، وتستمرّ الزّوجيّة ظاهراً بعد حلف الزّوج على نفي الرّضاع‏.‏ وإن لم تزوّج برضاها بل زوّجت إجباراً، أو أذنت بغير تعيين الزّوج، فالأصحّ عندهم تصديقها بيمينها ما لم تمكّنه من وطئها مختارةً لاحتمال صحّة ما تدّعيه، ولم يسبق منها ما ينافيه، فأشبه إقرارها قبل النّكاح، ولها مهر مثلها إن وطئ ولم تكن عالمةً بالحكم مختارةً في التّمكين، لا المسمّى لإقرارها بنفي استحقاقها‏.‏ فإن قبضته لم يستردّ منها لزعمه أنّه لها، وإن لم يدخل بها أو كانت عالمةً بالتّحريم مختارةً في التّمكين فلا شيء لها، لأنّها بغي مطاوعة‏.‏

والمنكر للرّضاع يحلف على نفي العلم، لأنّه ينفي فعل الغير، ومدّعيه يحلف على البتّ‏.‏

نصاب الشّهادة على الرّضاع

32 - اختلف الفقهاء في نصاب الشّهادة على الرّضاع‏:‏

فذهب الحنفيّة إلى أنّه يثبت بشهادة العدول، رجلين أو رجلٍ وامرأتين، ولا يقبل أقلّ من ذلك، ولا شهادة النّساء بانفرادهنّ‏.‏

واستدلّوا بقول عمر رضي الله عنه‏:‏ لا يقبل على الرّضاع أقلّ من شاهدين وكان ذلك بمحضرٍ من الصّحابة، ولم يظهر النّكير من أحدٍ، فصار إجماعاً‏.‏

ولأنّ هذا ممّا يطّلع عليه الرّجال في الجملة، فلا يقبل فيه شهادة النّساء على الانفراد، لأنّ قبول شهادتهنّ بانفرادهنّ في أصول الشّرع للضّرورة، وهي ضرورة عدم اطّلاع الرّجال على المشهود به، فإذا جاز الاطّلاع عليه في الجملة لم تتحقّق الضّرورة‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يثبت الرّضاع بشهادة رجلين أو رجلٍ وامرأتين مطلقاً قبل العقد وبعده‏.‏ ويعمل قبل العقد في غير الرّشيد بإقرار أحد الأبوين، ولو أمّاً، وأولى بإقرارهما معاً، فيفسخ إذا وقع، ولا يعتبر إقرارهما بعده‏.‏ وأمّا بعد العقد فيقبل شهادة رجلٍ وامرأةٍ، أو شهادة امرأتين إن فشا ذلك قبل العقد، ولا يقبل شهادة امرأةٍ واحدةٍ ولو فشا ذلك‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ يثبت الرّضاع بشهادة رجلين، وبرجلٍ وامرأتين، وبأربع نسوةٍ، لأنّه ممّا لا يطّلع الرّجال عليه إلاّ نادراً، ولا يثبت بدون أربع نسوةٍ‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ يثبت الرّضاع بشهادة المرأة المرضيّة‏.‏

واستدلّوا بحديث عقبة قال‏:‏ » تزوّجت أمّ يحيى بنت أبي إهابٍ، فجاءت أمة سوداء فقالت‏:‏ قد أرضعتكما، فأتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال‏:‏ كيف بها وقد زعمت أنّها أرضعتكما «‏.‏ وهو يدلّ على الاكتفاء بالمرأة الواحدة‏.‏

أمّا الإقرار بالرّضاع فلا يثبت إلاّ بشهادة رجلين عليه إن أقرّ بذلك، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏

والتّفصيل في‏:‏ ‏(‏باب الشّهادة‏)‏‏.‏

قبول شهادة أمّي الزّوجين بالرّضاع

33 - ذهب المالكيّة إلى أنّ شهادة أمّي الزّوجين على الرّضاع بين الزّوجين مقبولة كالأجنبيّتين لضعف التّهمة‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لو كان فيمن يشهد بالرّضاع أمّ المرأة أو بنتها، فإن كان الزّوج مدّعياً، والمرأة منكرة قبلت شهادتها‏.‏ وكذا لو شهدت الأمّ أو البنت من غير تقدّم دعوى على سبيل الحسبة، وإن احتمل كون الزّوجة مدّعيةً، لأنّ الرّضاع تقبل فيه شهادة الحسبة‏.‏

وإن كانت المرأة مدّعيةً فلا تقبل للتّهمة لأنّ المقرّر عدم قبول شهادة الأصل لفرعه، وتقبل عليه‏.‏

شهادة المرضعة

34 - تقبل شهادة المرضعة وحدها على فعل نفسها لحديث عقبة، لأنّه فعل لا يحصل به لها نفع مقصود، ولا تدفع به ضرراً، فقبلت شهادتها فيه كفعل غيرها، وإلى هذا ذهب الحنابلة‏.‏

وقال الشّافعيّة والمالكيّة‏:‏ تقبل مع غيرها، ولا تقبل وحدها، واشترط الشّافعيّة لقبول شهادتها فيمن يشهد أن لا تطلب أجرةً، فإن طلبت أجرة الرّضاع فلا تقبل للتّهمة‏.‏

وصرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا تقبل الشّهادة على الرّضاع إلاّ مفصّلةً، فلا يكفي قول الشّاهد‏:‏ ‏"‏ بينهما رضاع ‏"‏ بل يجب ذكر وقت الإرضاع وعدد الرّضعات، كأن يقول‏:‏ أشهد أنّ هذا ارتضع من هذه خمس رضعاتٍ متفرّقاتٍ خلص اللّبن فيهنّ إلى جوفه في الحولين أو قبل الحولين لاختلاف العلماء في ذلك‏.‏

رضاع الكفّار

35 - إن ارتضع مسلم من ذمّيّةٍ رضاعاً محرّماً حرّمت عليه بناتها وفروعها كلّهنّ وأصولها كالمسلمة، لأنّ النّصوص لم تفرّق بين مسلمةٍ وكافرةٍ، وقد صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة ولا تأبى ذلك قواعد المذاهب الأخرى‏.‏

الارتضاع بلبن الفجور

36 - قال أحمد بن حنبلٍ‏:‏ يكره الارتضاع بلبن الفجور ولبن المشركات، لأنّه ربّما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور، ويجعلها أمّاً لولده فيتعيّر بها، ويتضرّر طبعاً وتعيّراً، والارتضاع من المشركة يجعلها أمّاً لها حرمة الأمّ مع شركها، وربّما مال إليها المرتضع وأحبّ دينها‏.‏

وروي عن عمر بن الخطّاب وعمر بن عبد العزيز أنّهما قالا‏:‏ اللّبن يشتبه، فلا تستق من يهوديّةٍ، ولا نصرانيّةٍ ولا زانيةٍ، ويكره بلبن الحمقاء كي لا يشبهها الطّفل في الحمق‏.‏

صلة المرضعة وذويها

37 - للمرضعة حقّ على من أرضعته ولو كان الإرضاع بأجرٍ، يدلّ على ذلك حديث حجّاجٍ الأسلميّ، قال‏:‏ » قلت‏:‏ يا رسول اللّه ما يذهب عنّي مذمّة الرّضاعة ‏؟‏ قال‏:‏ الغرّة العبد أو الأمة «‏.‏

قال القاضي‏:‏ والمعنى أيّ شيءٍ يسقط عنّي حقّ الرّضاع حتّى أكون بأدائه مؤدّياً حقّ المرضعة بكماله ‏؟‏ وكانت العرب يستحبّون أن يرضخوا للظّئر بشيءٍ سوى الأجرة عند الفصال، وهو المسئول عنه في الحديث‏.‏

وقال الخطّابيّ في المعالم‏:‏ يقول‏:‏ إنّها قد خدمتك وأنت طفل، وحضنتك وأنت صغير، فكافئها بخادمٍ يخدمها ويكفيها المهنة، قضاءً لذمامها ‏"‏ أي لحقّها ‏"‏ وجزاءً لها على إحسانها‏.‏

وقد استدلّ بالحديث على استحباب العطيّة للمرضعة عند الفطام، وأن يكون عبداً أو أمةً، لأنّها كانت أغلى الأموال ولذا سمّيت ‏"‏ غرّةً ‏"‏‏.‏

كما يدلّ على ذلك فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو الطّفيل قال‏:‏ » رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقسم لحماً بالجعرانة‏.‏ قال أبو الطّفيل‏:‏ وأنا يومئذٍ غلام أحمل عظم الجزور إذ أقبلت امرأة حتّى دنت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت‏:‏ من هي ‏؟‏ فقالوا‏:‏ هذه أمّه الّتي أرضعته «‏.‏

وروى عمر بن السّائب أنّه بلغه‏:‏ » أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان جالساً يوماً فأقبل أبوه من الرّضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثمّ أقبلت أمّه فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثمّ أقبل أخوه من الرّضاعة، فقام له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه «‏.‏